[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]
جلس معاوية بن أبي سفيان في مجلس كان له بدمشق، وكان ذلك الموضع مفتح الجوانب يدخل منه النسيم، فبينما هو جالس ينظر إلى بعض الجهات في يوم شديد الحر، وقد اشتد نفح الهجير إذ نظر إلى رجل يمشي نحوه وهو يتلظى بالنار من حر التراب، ويحجل في مشيه حافيا، فتأمله معاوية وقال لجلسائه، : هل خلق الله أشقى ممن يحتاج إلى الحركة في هذه الساعة ؟ فقال بعضهم : لعله يقصد أمير المؤمنين، فقال : والله لئن كان قاصدي سائلا لأعطينه، أو مستجيرا لأجيرنه، أو مظلوما لأنصرنه .. يا غلام ؛ قف فإن طلبني هذا الأعرابي فلا تمنعه الدخول علي.فخرج الغلام فوافى الأعرابي، وقال : ما تريد ؟ قال أمير المؤمنين. قال : ادخل، فدخل وسلم على معاوية، فقال له : ممن الرجل ؟ فقال : من تميم، قال : ما الذي جاء بك في مثل هذا الوقت ؟ قال : جئتك مشتكيا وبك مستجيرا. قال : ممن ؟ قال : من مروان بن الحكم، ثم أنشده هذه الأبيات :
معاوي، ياذا الفضل والحلم والعقل وذا البر والإحسان والجود والبذل
أتيتك لما ضاق في الأرض مذهبي وأنكرت مما قد أصبت به عقلي
ففرج - كلاك الله - عني فإنني لقيت الذي لم يلقه أحد قبلي
وخذ - هداك الله - حقي من الذي رماني بسهم كان أيسره قتلي !
وكنت أرجى عدله إن أتيته فأكثر تردادي مع الحبس والكبل
سباني سعدي وانبرى لخصومتي وجار ولم يعدل وغاصبني أهلي
فطلقتها من جهد ما قد أصابني فهذا، أمير المؤمنين، من العدل ؟
فلما سمع معاوية إنشاده والنار تتوقد من فيه قال : مهلا يا أخا العرب، اذكر قصتك وأفصح عن أمرك.قال : يا أمير المؤمنين، كانت لي زوجة وهي ابنة عمي وكنت لها محبا وبها كلفا؛ وكنت بها قرير العين، طيب العيش، وكانت لي صرمة من الإبل أستعين بها على قيام حالي وإصلاح أودي؛ فأصابتنا سنة ذات قحط شديد، أذهبت الخف والظلف، وبقيت لا أملك شيئا؛ فلما قل ما بيدي؛ وذهب حالي ومالي، بقيت مهانا ثقيلا على وجه الأرض؛ قد أبعدني من كان يشتهي القرب مني، وازور عني من كان يرغب في زيارتي !
فلما علم أبوها بي من سوء الحال وشر المآل أخذها مني، وسألني الفراق وجحدني وطردني، وأغلظ علي، فأتيت إلى عاملك مروان بن الحكم مستصرخا، وبه راجيا لينصرني، فأحضر أباها وسأله عن حالي، فقال : ما أعرفه قبل اليوم، فقلت : أصلح الله الأمير ! إن رأى أن يحضرها ويسألها عن قول أبيها فليفعل. فبعث إليها مروان وأحضرها مجلسه، فلما وقفت بين يديه وقعت منه موقع الإعجاب؛ فصار لي خصما وعلى منكرا ! وانهرني وأظهر لي الغضب وبعث بي إلى السجن، فبقيت كأنما خررت من السماء في مكان سحيق !
ثم قال لأبيها : هل لك أن أتزوجها مني على ألف دينار وعشرة آلاف درهم لك ؟ وأنا ضامن لك خلاصها من هذا الإعرابي. فرغب أبوها في البذل وأجابه لذلك ! فلما كان من الغد بعث إلى وأخرجني من السجن، وأوقفني بين يديه، ونظر إلي كالأسد الغضبان، وقال : يا أعرابي، طلق سعدي، فقلت : لا أقدر على هذا، فسلط على جماعة من غلمانه، فأخذوا يعذبونني بأنواع العذاب، فلم أجد بدا من ذلك ففعلت، ثم عادوا بي إلى السجن، فمكثت فيه إلى أن انقضت عدتها، فتزوجها ودخل بها. وقد أتيتك مستجيرا وإليك ملتجئا، ثم أنشد :
في القلب منى نار والنار فيها استعار !
والجسم مني سقيم واللون فيه اصفرار
وفي فؤادي جمر والجمر فيه شرار
والعين تبكي بشجو فدمعها مدرار
والحب داء عسير فيه طبيب يحار
حملت منه عظيما فما عليه اصطبار
فليس ليلي ليل ولا نهاري نهار !
ثم اضطرب وخر مغشيا عليه، وأخذ يتلوى كالحية المقتولة، فلما سمع كلامه وإنشاده قال : تعدى فظلم مروان بن الحكم في حدود الدين، واجترأ على حرم المسلمين، ثم قال : والله يا أعرابي، لقد أتيتني بحديث لم أسمع بمثله قط، ثم دعا بدواة وقرطاس، وكتب إلى مروان بن الحكم : قد بلغني أنك أعتديت على رعيتك، وانهكت حرمة من حرم المسلمين، وتعديت حدود الدين، وينبغي لمن كان واليا أن يغض بصره عن شهواته، ويزجر نفسه عن لذاته، وكتب في آخره :
ركبت أمرا عظيما لست أعرفه أستغفر الله من جور امري زاني
قد كنت تشبه صوفيا له كتب من الفرائض أو آيات فرقان
حتى أتاني الفتى العذري منتحبا يشكو إلى بحق غير بهتان
أعطى الإله عهودا لا أخيس بها أو لا فبرئت من دين وإيمان
إن أنت راجعتني فيما كتبت به لأجعلنك لحما بين عقبان
طلق سعاد، وعجلها مجهزة مع الكميت ومع نصر بن ذبيان !
فما سمعت كما بلغت من عجب ولا فعالك حقا فعل إنسان
م طوى الكتاب وطبعه بخاتمه، واستدعى الكميت ونصر بن ذيبان - وكان يستنهضهما في قضاء الحوائج لأمانتهما - فأخذاه وسارا حتى قدما المدينة، ودخلا على مروان وسلما إليه الكتاب، ففضه وقرأه، ثم ارتعدت فرائصه، وطلقها في الحال وبعث بها إلى أمير المؤمنين، وكتب إلى معاوية كتابا فيه :
حوراء يقصر عنها الوصف إن وصفت أقول ذلك في سر وإعلان
فلما قرأه قال : لقد أحسن في الطاعة، وأطنب في حسن الجارية.
ولما رأى معاوية الجارية رأى صورة لم ير مثلها في الحسن والقد والجمال ؟
وخاطبها فوجدها أفصح النساء بعذوبة منطق، ثم قال : على الإعرابي، فأتى إليه وهو على غاية من سوء الحال، فقال : يا أعرابي؛ هل لك عنها من سلوة، وأعوضك ثلاث جوار مع كل جارية ألف دينار، وأقسم لك من بيت المال في كل سنة ما يكفيك ويعينك على صحبهن ؟
فلما سمع الأعرابي كلام معاوية شهق شهقة ظن معاوية أنه قد مات، ولما أفاق قال له : ما بالك ؟ قال : شر بال، وأسوأ حال؛ استجرت بعدلك من جور ابن الحكم، فبمن استجير من جورك ! ثم أنشد :
لا تجعلني والأمثال تضرب بي كالمستجير من الرمضاء بالنار
اردد سعاد على حيران مكتئب يمسي ويصبح في هم وتذكار
قد شفه قلق ما مثله قلق وأسعر القلب مني أي إسعار
كيف السلو وقد هام الفؤاد بها وأصبح القلب عنها غير صبار !
ثم قال : يا أمير المؤمنين؛ لو أعطيتني ما حوته الخلافة ما اعتضته دون سعدى.فقال معاوية : يا أعرابي؛ إنك مقر أنك طلقتها، ومروان مقر أنه طلقها، ونحن نخيرها، فإن اختارت سواك زوجناه بها، وإن اختارتك رجعنا بها إليك.
قال : افعل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.ودعاها معاوية وقال لها : ما تقولين يا سعدى ؟ أي أحب إليك ؟ أمير المؤمنين في عزه وشرفه وسلطانه وقصوره وما تصيرين عنده، أو مروان بن الحكم في عسفه وجوره، أوهذا الأعرابي مع جوعه وفقره وسوء حاله ؟ فأنشدت هذين البيتين :
هذا وإن كان فقر وإضرار أعز عندي من قومي ومن جاري
وصاحب التاج أو مروان عامله وكل ذي دره عندي ودينار
ثم قالت : والله يا أمير المؤمنين، ما أنا بخاذلته لحادثة الزمان، ولا لغدرات الأيام، وإن لي معه صحبة قديمة لا تنسى ومحبة لا تبلى وأنا أحق من صبر معه على الضراء، كما تنعمت معه في السراء.فتعجب معاوية من عقلها ومروءتها، وأمرها لها بعشرة آلاف درهم، وردها بعقد جديد، فأخذها الأعرابي وانصرف يقول :
خلوا عن الطريق للأعرابي ألم ترقوا ويحكم ، مما بي